الجنوب التونسي رحلة في أعماق
روعة تونس يلمسها السائح منذ وطأت قدماه أرضها، ويزداد غوصه في التمتع بذلك الجمال الطبيعي الذي ينسيه أنه جاء للسياحة والترفيه كل ما تقدّم إلى الداخل لأنه يعيش فعلا حالة الترفيه والطمأنينة والدفء الإنساني لما يلقاه من حفاوة وترحاب كلما تقدم في أعماق البلاد.
فالسائح الزائر لا يكاد يغادر النزل أو المطار متجها إلى داخل البلاد التونسية، إلى منطقة الجنوب تحديدا، حتى تبدأ ملامح الصحراء تظهر شيئا فشيئا أمام ناظريه. وتبدأ السيارات المميزة ذات الدفع الرباعي تهتزّ قليلا بعد أن تعرّج عن المعبّد لتدخل أحد المسالك المهيأة خصيصا تحت ظلال النخيل أو بين أشجار السنديان لتحمله إلى تلك النزل ذات الخصوصية المميزة.
وفي الطريق القادم من الشمال والمتعرج إليها من منطقتي جربة وجرجيس السياحيتين في الجنوب، لا يمكن لأي سائح أن لا يتوقف بمطماطة، تلك القرية السياحية الغارقة بين النخيل وبين الوهاد إلى الجنوب من قابس، والتي تشكل مفترق الطرق إلى السياحة في الصحراء بجناحيها الجنوب الشرقي أو الجنوب الغربي
فمطماطة هي واحدة من أقدم المواقع السياحية، اشتهرت كأبعد مواطن العمران البربري إلى الشمال في كامل منطقة الجنوب التونسي. هناك يعيش السائح كل يوم حالة من الانتشاء بالعودة إلى التاريخ حينما ينزل إلى تلك الغرف تحت الأرض، ويقف حائرا أمام ما بلغته القدرة الإبداعية للإنسان في تصريف شؤونه وتوظيف الطبيعة لنمط عيشه
إذا كانت أكلة الكسكسي التونسي تسلب عقول السياح، فإن أطباقا أخرى من اختصاصات المنطقة أسرتهم وأخذت بمجامع قلوبهم
هناك يتذوق الأطعمة التقليدية ويتمدد تحت النخيل أو يطلع السلم الحجري ليجتاز به غرفة وثانية وثالثة وأكثر حتى يصل إلى أعلى إلى سطح الأرض. وما يكاد يغادرها إلا ويلبي لها نداء العودة، حيث يستريح وينسى العالم خارجه بكل ما فيه ومن فيه، لا يعيش تحت الأرض إلا لنفسه ولعقله وخياله.. وعندما يصل إلى أقصى مدينة في الجنوب، تطاوين، يقف مشدوها أمام ما يعيش ويرى ويلمس، فعلى بطن الجبل يقف نزل عصري امتزج بروح الجبل وببشائر الصحراء وبكل خاصيات وخدمات النزل العصرية.. لكن المهم بالنسبة إلى الزائر السائح هو تلك النزل الأخرى التي لا يمكن أن يجدها في أي مكان آخر لا غربا ولا شرقا. ففي هذه المنطقة تقوم شبكة من القصور الصحراوية القديمة أنشأها في زمن مضى سكان تلك المناطق، وهم من البربر الذين يعرفون في التاريخ بالأمازيغ أو سكان الجبال
هذه القصور شيّدت بمواد أولية للبناء متوفرة في جهة، ومنها الحجر والجير على وجه الخصوص، وأقيمت غرفها على طوابق من الأرضي إلى الرابع بشكل معماري بديع يمنع التصادم بين النزول والطلوع على السلم الحجري الخارجي لكل غرفة، التي تتسم بالطول، وتوجد داخلها مقاسم تيسّر قضاء الحاجة سواء للنوم أو الجلوس أو الطعام، في حين خصص بعضها لخزن المؤونة التي هي عادة لمدة سنة فأكثر، وبعضها الآخر لخزن السلاح أو للحراسة الليلية، نظرا لما اتسم به التاريخ القديم من غزوات وما اشتهر به البرابرة من لجوء إلى الجبال لتسهيل الدفاع عن أنفسهم
هذه القصور تحوّلت إلى نزل سياحية من طراز فريد بعد أن لفها الإهمال والنسيان لعقود عديدة، وهي نزل تشدّ السياح إليها لما توفره من متعة الفرجة والإقامة البديعة. إقامة تجعل الواحد يتمدد مغمض العينين سابحا في خياله وتصوّراته على أرض إحدى الغرف، لا يوقظه منها إلا مناد يناديه للغداء أو العشاء أو الإفطار، حيث يتجمع السياح فقط للأكل وليس كما جرت العادة في تقاليدهم، ولكن أيضا وأساسا حسب عادات وتقاليد الجهة واستيحاء من تاريخ المكان أيضا.
رحلة ممتعة عبر رمال الصحراء في مدينة دوز |
وإذا كانت أكلة الكسكسي التونسي تسلب عقول الزوار من السياح، فإن أطباقا أخرى من اختصاصات المنطقة أيضا قد أسرتهم وأخذت بمجامع قلوبهم، وجعلت الغالبية العظمى منهم تعود إلى المنطقة الساحرة عاما بعد عام. ومن هذه الأطباق ما يعرف في الجهة “بالمسلان” وهي طريقة في تهيئة لحم الضأن على نار هادئة تحت الأرض، ودون أن تمسسه النار بما يجعل اللحم ذا نكهة وروعة لا مثيل لهما. إضافة إلى ما يعرف بخبز الملة، وهو خبز يتم طهيه مباشرة في الرمل الصافي، وحين يجهز لا تبقى به ذرة رمل واحدة، وطعمه يبزّ جميع أنواع الخبز الأخرى بما يجعل السياح يعشقونه عشقا.
ولكن سائح الصحراء لا يتمتع بذلك فقط، فهو ينطلق عبر الصحراء نفسها والتي اشتهرت في تونس بأنها موطن الغزال والوعل وموطن الحبارى، ذلك الطائر الجميل الذي لم يذق الإنسان لحم طير أشهى ولا أحلى منه. وهي بلد الزواحف أيضا، التي يعجب السائح بكيفية تمكن أهاليها من الحصول على الكثير منها، من أفاع وعقارب وملال وأورال، ثم تحنيطها وعرضها على السياح في لوحات عجيبة، يقتنيها هؤلاء كنوع من التذكار التي لا يجدونها في أماكن أخرى.
وفي انطلاقته لاستكشاف الصحراء والغوص في أعماقها وتجاوز ما يعرف بسلسلة جبال مطماطة إلى الجنوب، يكون الالتفاف غربا عبر برج بورقيبة حيث تلك الوهاد العميقة وربى الرمال الممتدة على مدى البصر ليس أروع منها سوى الوقوف عندها للتأمل في غروب الشمس، ثم مواصلة الطريق الصحراوي غربا وصولا إلى دوز وقبلي
وعند عودة السائح من رحلة ممتعة عبر رمال الصحراء تجده في مدينة دوز الشهيرة بإنتاج أشهر أنواع التمور وأجودها لغاباتها الممتدة من النخيل، عدة فنادق تقدم خدمات من طراز رفيع يجمع بين المتعة والراحة، تماما مثلما هو الأمر في قبلي المجاورة لها.
Cliquer ici pour réserver