الجنوب التونسي : واحات السراب والرمل والنخيل

واحة في صحراء. وصف لا يدرك مغزاه إلا من كابدوا عناء السفر في الصحراء. رمال على مد البصر، وكثبان رملية تزحف وتزحف حتى تكاد تبتلع ما حولها. والريح تعبث بذرات التراب الذي يتحول غباراً يصفع الوجه ويعمي العيون. والشمس تشعل الصحراء فتحول رمالها وكثبانها لهيباً حارقاً طوال ساعات النهار. وحين يحل الظلام تهبط درجة الحرارة وتشتد البرودة بالقسوة نفسها التي يتسم بها قيظ النهار. وفجأة يصل المسافر في الصحراء الى الواحة. ظلال ونخيل وحيوانات وبشر وبيوت ومزارع. نقيض الصحراء تماماً، مع أن الصحراء تكاد تخنق الواحة من شدة إحاطتها وتربصها بها. تلك هي المشاعر والانطباعات التي تخالج الزائر للواحات الواقعة جنوب تونس في الصحراء الافريقية الكبرى.
أرض فضاؤها لا تحده حدود. وسطحها تكوّن عبر ملايين السنوات من بحيرات مالحة لم تبق خصوبة ولا أملاً في حياة نباتية أو بشرية هناك. ولا يكاد المرء يجد سلوى ولا عزاء في تلك المناطق المقفرة إلا حين يرى من بعيد سراباً ينبئه بقرب وصول قافلة من الجمال التي ما تلبث أن تختفي عن الأنظار. والمسافرون على ظهرها من البربر يلوحون بوجوههم الملثمة ويتلاشون. غير أن المنظر الأشد بعثاً للطمأنينة في النفوس منظر أشجار النخيل الباسقة التي تسبح أغصانها في الفضاء، وتمتشق قامتها لتقف رمزاً للنبل والصمود والتحدي، تصارع قسوة الصحراء، وتعاني مثل أهل الصحراء محنة العطش والجفاف وقلة الحيلة، وما تنفك تعطي ثمراً يسمن ويغني ويعود بالمال على الجيوب
وواحات الجنوب التونسي أعجب ما يكون. فحيث يوجد نبع طبيعي ينمو بساط أخضر كثيف في محيط العين الجارية. تهش نفس الناظر وتتهلل أساريره لرؤية الخضرة والماء. يجيل بصره حول المكان فترهبه الكثبان العاتية، والرمال الممتدة، والصخور المخيفة، ولون الأرض الصخرية الداكن، والعقارب والثعابين التي أنست وحدها لذلك القفر اليباب
والملاحظ أن البلدات والمدن التي تنشأ هناك لا تنتقي لنفسها موقعاً في قلب الواحة، بل تنشأ في أطرافها، تقديراً لأهمية الارض التي لا تعطي ما في رحمها إلا بالري الاصطناعي، من مورد مائي ثمين حقاً.
وتتباين طبيعة تلك الواحات من الصحراء الى البيئة الجبلية والبيئة الشبيهة بالمناطق الساحلية. ولكل منها عين جارية تهب السكان الحياة من ينابيع طبيعية احتفظت بعذوبة مياهها على رغم الطبقة الملحية والصخور الصلدة التي تغلب على أرض الصحراء. وتنبع المياه في واحات أخرى من الجبال والأنهار. وأشار المؤرخ الروماني بليني الأكبر، في مدونته لوقائع الاحتلال الروماني لإفريقيا، إلى خصوبة الواحات الجنوبية. وذكر على وجه التحديد بلدة اسمها « تاكاب » التي تعرف حالياً باسم قابس، « حيث الأرض مزروعة جيداً، وتعطي ثمراً طيباً ». وقال إن قابس تتمدد في كل الإتجاهات. وذكر العين الجارية التي ترتوي من مائها المدينة، ووصف أشجار النخيل التي تشمخ فوق أشجار الزيتون والتين والرمان والعنب. وأشار الى القمح والخضروات والأعشاب الخضراء، وقال: « كل منها يؤوي الآخر ويظله »
ولا يبدو أن شيئاً يذكر قد تغير منذ ألفي عام. إذ لا تزال قابس تنعم بمياه الأنهار التي تتدفق من عدد من الينابيع. ويبلغ عدد أشجار النخيل فيها نحو 300 ألف نخلة. ويقتسم السكان المياه بنظام صارم ظلوا يحترمونه جيلاً تلو جيل. ويتم توزيع المياه عن طريق قنوات تجعل الواحة أشبه بأرض تتقاطع فيها الأنهار الصغيرة. إنها شبكة توزيع دقيقة بمعنى الكلمة، فكل فلاح يحق له أن يحصل على الماء بشكل دوري لفترات تراوح بين اليوم ونصفه وربعه. وفي اليوم المحدد لسقياه يقوم بإغلاق الحاجز بين القناة وحقل جاره، ليفتح المجرى الذي يصل حقله بالقناة.
والزائـــر لعـــروس الواحــات التونسية قابس لا تكتمل متعته إذا لم يستأجر عربة تجرها الخيول لتجول به وسط البساتين، في ممرات تظللها أشجار البرتقال والليمون والموز. يملأ نفسه فوح الورود وشذى الأزهار، فيما ضوء الشمس يتخلل الأغصان، والطيور تصدح بلا انقطاع. وتدلف العربة الى أحد المنعطفات حيث نسوة المدينة يقمن بغسل الملابس. وبعضهن عاكفات على الاعتناء بحقول الخضروات التي تمثل مصدر الدخل الوحيد لبعض العائلات. وفيما النساء في عمل لا يتوقف، يقتل الصبيان فراغهم بلعب كرة القدم في أزقة المدينة، ويقضي الكبار أوقاتهم في لعب النرد
ساحرة هوليوود
وقبالة المدينة يوجد فضاء رملي تغطيه رمال ناعمة أشد بياضاً من مسحوق « الباودر » الطبي المعروف. ومن حسن الحظ أن صناعة السياحة الحديثة لم تســتغل ذلك الفضاء البهـيج الأخاذ الى المدى الذي من شأنه أن ينهكه ويغير طبيـعته، وذلك على رغم انشاء عدد من الفنادق الحديثة في المنطقة. ومع أن قابس لا تكاد تتميز عن بقية المدن التونسية، إلا أن المدينة وما حولها سحرت عدداً من منتجي الأفلام الهوليوودية فاختاروها موقعاً لتصوير أفلام شهيرة، منها « حياة براين » و »حرب النجوم » و »المريض الانكليزي »
وعدا المصحات والمساجد المشيدة على الطراز المعماري الحديث، تبدو المدينة على حقيقتها وعراقتها وأصالتها. وفي المدن القريبة وما حولها توجد المدن الصخرية التي أنشأها البربر داخل الصخور لتقيهم شدة الحر نهاراً وبرودة الطقس ليلاً. وهو مشهد فريد حقاً. ففي باطن تلك الصخور المنحوتة تمضي الحياة كما في أي بلدة أو مدينة. ثمة ساحات ومستودعات ومطاحن وحياة عادية بكل ما في التعبير من معنى. بل تتسع البلدة المنحوتة في بطن الصخر لمرابض الجمال التي لا تفارق رجال الصحراء. وتقوم الجمال بمهمات حيوية تتمثل في عصر الزيتون وتدوير الطواحين المصنوعة من جذوع أشجار الزيتون
وفي غرف المعيشة معظم قطع الأثاث منحوتة في الصخر نفسه: خزانات الثياب، الارفف وتتفنن النساء في تزيين بيوتهن الصخرية. ويمكن للزائر أن ينعم بالمبيت ليلة أو بضع ليال في النزل المقام وسط الصخور. وإذا لم يكن وقته يسمح له بقضاء الليلة، فيمكنه على الأقل تناول وجبة تونسية شهية في المطعم المحفورة جدرانه وسط الصخور!
وسريعاً يلاحظ الزائر أن بيئة الجنوب التونسي بصحرائها وواحاتها، التي تختلف تماماً عن طبيعة السواحل المتوسطية للمدن والقرى التونسية الاخرى، تتميز بصناعاتها الحرفية التقليدية، كالأغطية المغزولة من الصوف، والسجاجيد التي تصنع بتصميم متفرد تغلب عليه رسوم الحيوان والإنسان. حتى الصبغة التي تستخدم في تلوين السجاد تصنع من مواد محلية طبيعية كالحناء والزعفران وقشر الرمان
ومن يزر مدينة توزر يخلب لبه التزيين اللوني الفريد الذي تتسم به منازل المدينة. والنسيج المفضل لنساء البربر في تلك المنطق هو الثوب الذي يتم صبغه بمادة « التّفتة ». وتشابه الرسوم والأشكال الهندسية التي تزين بها المنازل اللوحات التي يزدهي بها السجاد التونسي.
60 ألف غالون
ويتميز الجنوب التونسي بتراثه الشعبي الغنائي الذي يغلب على هوية المنطقة وبيئتها. ولعل أبرز سمتين من ســماتها هما النـخلة والجمل الذي لا تصلح دابة سواه لقطع تلك الصحراء. وترى الفلاحين في عمل دائب لضمان التلاقح بين إناث النخيل وذكورها. كما أن حاجة النخلة الى الماء تشغل الجانب الأكبر من أوقاتهم. ورد في أوصاف العرب أن النخلة تنمو وأقدامها في الماء ورأسها مع الشمس في السماء، كناية عن عطشها المستمر للماء. إذ تستهلك كل نخلة نحو 60 ألف غالون ماء سنوياً. غير أن النخلة تعوض الفلاح الذي يرعاها نهاراً وليلاً بفوائد كثيرة الى جانب ما يعود به التمر. فهي توفر الظل لكل ما يبذره الفلاح حولها. كما أنها تعتبر حزاماً ناجعاً بوجه العواصف الترابية وزحف رمال الصحراء. ومن النخلة يسحق الفلاح نواة التمر ليصنع علفاً لحيواناته. وتستخدم جرائد النخل في صنع الأبواب والأثاث. ويستعان بجذوعها في بناء السقوف وجسور المشاة. أما لحاها فينسج حبالاً
وبالطبع فإن أفضل ما تجود به نخيل الجنوب التونسي هو التمر الذي يوجد منه أكثر من مئة صنف هناك، لكل منها اسمه المميز، يتصدرها جودة تمر « أصابع النور ». وهناك « أذن الحمار » و »قرن الغزال » و »عين الثعبان » و »أم الأسطى » و »أنف الحريم »!

الكاتب: جولييت هاييت

Cliquer ici pour réserver